فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن أكثر الأعمال يصرف المشتغل به عن الاشتغال بغيره.
وإذ كانت الآية مسوقة للتنويه بالصلاة وبيان مزيتها في الدين تعين أن يكون المراد أن الصلاة تحذر من الفحشاء والمنكر تحذيرًا هو من خصائصها.
وللمفسرين طرائق في تعليل ذلك منها ما قاله بعضهم: إن المراد به ما للصلاة من ثواب عند الله، فإن ذلك غرض آخر وليس منصبًا إلى ترك الفحشاء والمنكر ولكنه من وسائل توفير الحسنات لعلها أن تغمر السيئات، فيتعين لتفسير هذه الآية تفسيرًا مقبولًا أن نعتبر حكمها عامًا في كل صلاة فلا يختص بصلوات الأبرار، وبذلك تسقط عدة وجوه مما فسروا به الآية.
قال ابن عطية: وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات صلحت بذلك نفسه وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأفعاله وانتهى عن الفحشاء والمنكر. اهـ.
وفيه اعتبار قيود في الصلاة لا تناسب التعميم وإن كانت من شأن الصلاة التي يحق أن يلقنها المسلمون في ابتداء تلقينهم قواعد الإسلام.
والوجه عندي في معنى الآية: أن يحمل فعل {تنهى} على المجاز الأقرب إلى الحقيقة وهو تشبيه ما تشتمل عليه الصلاة بالنهي، وتشبيه الصلاة في اشتمالها عليه بالناهي، ووجه الشبه أن الصلاة تشتمل على مذكرات بالله من أقوال وأفعال من شأنها أن تكون للمصلي كالواعظ المذكر بالله تعالى إذ ينهى سامعه عن ارتكاب ما لا يرضي الله.
وهذا كما يقال: صديقك مرآة ترى فيها عيوبك.
ففي الصلاة من الأقوال تكبير لله وتحميده وتسبيحه والتوجيه إليه بالدعاء والاستغفار وقراءة فاتحة الكتاب المشتملة على التحميد والثناء على الله والاعتراف بالعبودية له وطلب الإعانة والهداية منه واجتناب ما يغضبه وما هو ضلال، وكلها تذكر بالتعرض إلى مرضاة الله والإقلاع عن عصيانه وما يفضي إلى غضبه فذلك صد عن الفحشاء والمنكر.
وفي الصلاة أفعال هي خضوع وتذلل لله تعالى من قيام وركوع وسجود وذلك يذكر بلزوم اجتلاب مرضاته والتباعد عن سخطه.
وكل ذلك مما يصد عن الفحشاء والمنكر.
وفي الصلاة أعمال قلبية من نية واستعداد للوقوف بين يدي الله وذلك يذكر بأن المعبود جدير بأن تمتثل أوامره وتجتنب نواهيه.
فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر، فإن الله قال: {تنهى عن الفحشاء والمنكر} ولم يقل تَصد وتحول ونحو ذلك مما يقتضي صرف المصلي عن الفحشاء والمنكر.
ثم الناس في الانتهاء متفاوتون، وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزعة على أوقات من النهار والليل ليتجدد التذكير وتتعاقب المواعظ، وبمقدار تكرر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة لها.
ووراء ذلك خاصية إلهية جعلها الله في الصلاة يكون بها تيسير الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
روى أحمد وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانًا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، فقال: سينهاه ما تقول أي صلاته بالليل.
واعلم أن التعريف في قوله: {الفحشاء والمنكر} تعريف الجنس فكلما تذكر المصلي عند صلاته عظمة ربه ووجوب طاعته وذكر ما قد يفعله من الفحشاء والمنكر كانت صلاته حينئذ قد نهته عن بعض أفراد الفحشاء والمنكر.
و{الفحشاء} اسم للفاحشة، والفحش: تجاوز الحد المقبول.
فالمراد من الفاحشة: الفعلة المتجاوزة ما يقبل بين الناس.
وتقدم في قوله تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء} في سورة [البقرة: 169].
والمقصود هنا من الفاحشة: تجاوز الحد المأذون فيه شرعًا من القول والفعل، وبالمنكر: ما ينكره الشرع ولا يرضى بوقوعه.
وكأن الجمع بين الفاحشة والمنكر منظور فيه إلى اختلاف جهة ذمه والنهي عنه.
وقوله: {وَلَذكْر الله أكبر} يجوز أن يكون عطفًا على جملة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} فيكون عطف علة على علة، ويكون المراد بذكر الله هو الصلاة كما في قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] أي صلاة الجمعة.
ويكون العدول عن لفظ الصلاة الذي هو كالاسم لها إلى التعبير عنها بطريق الإضافة للإيماء إلى تعليل أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أي إنما كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر لأنها ذكر الله وذكر الله أمر كبير، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة مقصود به قوة الوصف كما في قولنا: الله أكبر، لا تريد أنه أكبر من كبير آخر.
ويجوز أن يكون عطفًا على جملة {اتل ما أوحي إليك من الكتاب}.
والمعنى: واذكر الله فإن ذكر الله أمر عظيم، فيصح أن يكون المراد من الذكر تذكر عظمة الله تعالى.
ويجوز أن يكون المراد ذكر الله باللسان ليعم ذكر الله في الصلاة وغيرها.
واسم التفضيل أيضًا مسلوب المفاضلة ويكون في معنى قول معاذ بن جبل ما عَمل آدمي عملًا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله.
ويجوز أن يكون المراد بالذكر تذكر ما أمر الله به ونهى عنه، أي مراقبة الله تعالى وحذر غضبه، فالتفضيل على بابه، أي ولذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة في ذلك النهي، وذلك لإمكان تكرار هذا الذكر أكثر من تكرر الصلاة فيكون قريبًا من قول عمر رضي الله عنه: أفضل من شكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه.
ولك أن تقول: ذكر الله هو الإيمان بوجوده وبأنه واحد.
فلما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأراد أمر المؤمنين بعملين عظيمين من البر أردفه بأن الإيمان بالله هو أعظم من ذلك إذ هو الأصل كقوله تعالى: {فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيمًا ذا مقربة أو مسكينًا ذا متربة ثم كان من الذين ءامنوا} [البلد: 13 17].
وذلك من رد العجز على الصدر عاد به إلى تعظيم أمر التوحيد وتفظيع الشرك من قوله: {إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء} [العنكبوت: 42] إلى هنا.
وقوله: {والله يعلم ما تصنعون} تذييل لما قبله، وهو وعد ووعيد باعتبار ما اشتمل عليه قوله: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة} وقوله: {تنهى عن الفحشاء والمنكر}.
والصنع: العمل. اهـ.

.قال الشعراوي:

{مَثَل الذينَ اتخَذوا منْ دون الله أَوْليَاءَ كَمَثَل الْعَنْكَبوت اتخَذَتْ بَيْتًا}.
كلمة {مَثَل} وردت بمشتقاتها في القرآن الكريم مرات عدة، ومادة الميم والثاء واللام جاءت لتعبر عن معنى يجب أنْ نعرفه، فإذا قيل مثْل بسكون الثاء، فمعناها التشبيه، لكن تشبيه مفرد بمفرد.
كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمثْله شَيْء} [الشورى: 11] وقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيئَةٍ سَيئَة مثْلهَا} [الشورى: 40].
أما {مَثَل} بالفتح، فتعني تشبيه قصة أو متعدد بمتعدد، كما في قوله تعالى: {واضرب لَهم مثَلَ الحياة الدنيا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاه منَ السماء} [الكهف: 45].
فالحق- سبحانه وتعالى- لا يشبه شيئًا بشيء إنما يشبه صورة متكاملة بصورة أخرى: فالحياة الدنيا في وجودها وزهرتها وزخرفها وخضرتها ومتاعها، ثم انتهائها بعد ذلك إلى زوال مثل الماء حين ينزل من السماء فيختلط بتربة الأرض، فينبت النبات المزهر الجميل، والذي سرعان ما يتحول إلى حطام.
لذلك اعترض بعض المتمحكين على أسلوب القرآن في قول الحق سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام: {إن مَثَلَ عيسى عندَ الله كَمَثَل ءَادَمَ} [آل عمران: 59].
ووجه اعتراضه أن {مَثَل} جاءت تشبه مفردًا بمفرد، وهو عيسى بآدم عليهما السلام، ونحن نقول: إنها تشبه صورة متكاملة بأخرى ونقول: هذا الاعتراض ناتج عن عدم فهم المعنى المراد من الآية، فالحق سبحانه لا يشبه عيسى بآدم كأشخاص، إنما يشبه قصة خَلْق آدم بقصة خلق عيسى، فآدم خلق من غير أب، وكذلك عيسى خلق من غير أب.
والمعنى: إنْ كنتم قد عجبتم من أن عيسى خلق بدون أب، فكان ينبغي عليكم أنْ تعجبوا أكثر من خَلْق آدم؛ لأنه جاء بلا أب وبلا أم، وإذا كنتم اتخذتم عيسى إلهًا؛ لأنه جاء بلا أب، فالقياس إذنْ يقتضي أن تكون الفتنة في آدم لا في عيسى.
والمسألة أن الله تعالى شاء أن يعلن خلْقه عن طلاقة قدرته في أنه لا يخلق بشكل مخصوص، إنما يخلق كما يشاء سبحانه من أب وأم، أو من دون أب، ومن دون أم، ويخلق من أب فقط، أو من أم فقط.
إذن: هذه المسألة لا تخضع للأسباب، إنما لإرادة المسبب سبحانه، فإذا أراد قال للشيء: كنْ فيكون. وقد يجتمع الزوجان، ويكتب عليهما العقم، فلا ينجبان، وقد يصلح الله العقيم فتلد، ويصلح العجوز فتنجب- والأدلة على ذلك واضحة- إذن: فطلاقة القدرة في هذه المسألة تستوعب كل الصور، بحيث لا يحدها حَد.
والحق سبحانه حين يضرب لنا الأمثال يريد بذلك أنْ يبين لنا الشيء الغامض بشيء واضح، والمبهم بشيء بين، والمجمل بشيء مفصل، وقد جرى القرآن في ذلك على عادة العرب، حيث استخدموا الأمثال في البيان والتوضيح.
ويحكَي أن أحدهم، وكان صاحب سمعة طيبة وسيرة حسنة بين الناس، فحسده آخر، وأراد أنْ يلصق به تهمة تشوه صورته، وتذهب بمكانته بين الناس فاتهمه بالتردد على أرملة حسناء، وقد رآه الناس فعلًا يذهب إلى بيتها، فتخرج له امرأة فيعطيها شيئًا معه.
ولما تحقق الناس من المسألة وجدوها عجوزًا لها أولاد صغار وهم فقراء، وهذا الرجل يعطف عليهم ويفيض عليهم مما رزقه الله، فلما عرفوا ذلك عن الرجل عظموه، ورفعوا من شأنه، وزاد في نظرهم مجدًا وفضلًا.
وقد أخذ الشاعر هذا المعنى وعبر عنه قائلًا مستخدمًا المثل:
وإذَا أرادَ الله نَشْر فَضيلةٍ طويَتْ ** أَتاحَ لَها لسَانَ حَسود

لَوْلا اشْتعال النار فيما جاورَتْ ** مَا كان يعرف طيب عَرْف العود

والعود نوع من البخور، طيب الرائحة، لا تنتشر رائحته إلا حين يحرَق.
ومن مشتقاتها أيضًا مَثلَة كما في قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ من قَبْلهم المثلات} [الرعد: 6] وهي العقوبات التي حاقتْ بالأمم المكذبة، حتى جعلتها عبرةً لغيرها.
فإذا اشتهر المثَل انتشر على الألسنة، وضربه الناس مثلًا كما اشتهر حاتم الطائي بالكرم والجود حتى صار مضرب المثل فيه، وقد تشتهر بيننا عبارة موجزة، فتصير مثلًا يضرب في مناسبها كما نقول للتلميذ الذي يهمل طوال العام، ثم يجتهد ليلة الامتحان قبل الرماء تملأ الكنائن مع الاحتفاظ بنص المثل في كل مناسبة، وإن لم يكنْ هناك رمي ولا كنائن.
كما أن المثل يقال كما هو دون تغيير، سواء أكان للمفرد، أم المثنى، أم الجمع المذكر، أو للمؤنث. كذلك نقول ماذا وراءك يا عصام بالكسر؛ لأنها قيلت في أصل المثَل لامرأة.
يقول الحق سبحانه: {مَثَل الذين اتخذوا من دون الله أَوْليَاءَ كَمَثَل العنكبوت اتخذت بَيْتًا} [العنكبوت: 41].
فهذا مثل في قمة العقيدة، ضربه الله لنا للتوضيح وللبيان، ولتقريب المسائل إلى عقولنا، وإياك أن تقول للمثل الذي ضربه الله لك: ماذا أراد الله بهذا؟ لأن الله تعالى قال: {إن الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْربَ مَثَلًا ما بَعوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26].
فالبعض يرى أن البعوضة هذه شيء تافه، فكيف يجعله الله مثلًا؟ والتحقيق أن البعوضة خَلْق من خَلْق الله، فيها من العجائب والأسرار ما يدعوك للتأمل والنظر، وليست شيئًا تافهًا كما تظن، بل يكفيك فَخْرًا أنْ تصل إلى سر العظمة فيها.
ففي هذا المخلوق الضئيل كل مقومات الحياة والإدراك، فهل تعرف فيها موضع العقل وموضع جهازها الدموي. إلخ وفضلًا عن الذباب والناموس وصغار المخلوقات ألا ترى الميكروبات التي لا تراها بعينك المجردة ومع ذلك يصيبك وأنت القوى بما يؤرقك وينغص عليك.
إذن: لا تقلْ لماذا يضرب الله الأمثال بهذه الأشياء لأن الله {إن الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْربَ مَثَلًا ما بَعوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] ما فوقها أي: في الصغَر والاستدلال. أي: ما دونها صغَرًا؛ لأن عظمة الخلق كما تكون بالشيء الأكثر ضخامة تكون كذلك بالشيء الأقل حجمًا الأكثر دقة.
لو نظرتَ مثلًا إلى ساعة بج بن وهي أضخم وأشهر ساعة في العالم، وعليها يضبط العالم الوقت لوجدتَها شيئًا ضخمًا من حيث الحجم ليراها القادم من بعيد، ويستطيع قراءتها، فدلتْ على عظمة الصنْعة ومهارة المهندسين الذين قاموا ببنائها، فعظمتها في ضخامتها وفخامتها، فإذا نظرتَ إلى نفس الساعة التي جعلوها في فص الخاتم لوجدتَ فيها أيضًا عظمة ومهارة جاءت من دقة الصنعة في صغَر الحجم.
كذلك الراديو أول ما ظهر كان في حجم النورج، والآن أصبح صغيرًا في حجم الجيب.
ومن مخلوقات الله ما دق؛ لدرجة أنك لا تستطيع إدراكه بحواسك، والعجيب أن يطلب الإنسان أنْ يرى الله جهرة، وهو لا يستطيع أنْ يرى آثار خَلْقه وصَنْعته. فأنت لا ترى الجن، ولا ترى الميكروب والجراثيم، ولا ترى حتى روحك التي بين جنبيك والتي بها حياتك، لا يرى هذه الأشياء ولا يدركها بوسائل الإدراك الأخرى، فمن عظمته تعالى أنه يدرك الأبصار، ولا تدركه الأبصار.
نعود إلى المثَل الذي ضربه الله لنا: {مَثَل الذين اتخذوا من دون الله أَوْليَاءَ} [العنكبوت: 41] أي: شركاء وشفعاء {كَمَثَل العنكبوت} [العنكبوت: 41] هذا المخلوق الضعيف الذي ينسج خيوطه بهذه الدقة التي نراها، والذي نسج خيوطه على الغار في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشترك مع الحمامة في التعمية على الكفار.